الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

الفصل الخامس ماريونت - ج2


من كتاب لستم أحفادي بقلم ناني محسن : الفصل الخامس ماريونت ج2

لم يكن كل هذا من قبيل المصادفة ، لكن من الواضح أنه عمل منظم سخي التمويل ، وأن هؤلاء السفاحين ليسوا مجموعة شباب دعتهم الحاجة والجهل لسلك هذا السلوك المتخلف والوحشي المنا في لكل الأديان .
كانت صورة " أبانوب " مُفرزة لكل هرمون الأدرينالين في دماء " نور " وعائلته , بل و" شمس " و" ميشال "  أيضا ً، فلأول مرة يرى " ميشال " ما يدعون أنه الإسلام الحقيقي بكل ما فيه من وحشية ، لكن معايشته " لشمس " تجعله على يقين أن الإسلام له تأثير السحر على من يقترب منه , وإن كان هؤلاء مُسلمين حقاً كما يدعون فمن يكون " شمس " والمصريين الذين عرفهم ، وأمام كل ما لمسه من " شمس " وما تعلمه منه عن الإسلام وما رآه من شواهد , لم يشك للحظة أنه إرهاب مُمول , ومدفوع الأجر ، وقتها فقط تذكر النقاش الحاد الذي دار بين " شمس " و " موريس " حول ما يفعله اليهود لبناء أمجادهم ، لقد رأى هذا النقاش بعينه وسمعه بأذنيه ، حقاً إن تلك الجماعات مجرد " ماريونيت " في يد الصهاينة وأتباعهم ، هذه الحقيقة التي استقرت في عقل وقلب " ميشال " دون أي شك .
أتصل " ميشال " بصديق له أسمه "ديدييه فرانسوا" صحفي فرنسي ومراسل حربي ، ربما يكون لديه من الخبرة بمعرفة مُجريات الأمور ، وربما يجدون ضالتهم في سبيل لعودة " أبانوب " ورفاقه ، في نفس الوقت كان " نور " مُصراً على الاستماع لهذه المكالمة بنفسه من خلال مكبر صوت الهاتف ومواجهة الأمر بكل شجاعة .
ميشال : صديقي "ديدييه" أرجو مساعدتك ، لدي صديق مصري وهو شريك لي في الفندق ، ابن عمه أحد المُختطفين العشرين من قبل " داعش "، هل وصلت اليك أي معلومات عن تلك الواقعة أو إمكانية الإفراج عنهم .
ديدييه فرانسوا : أنا أسف " ميشال  " ما لدي من حقائق أن هؤلاء تم إعدامهم بالفعل يوم الثامن من فبراير وأن ما تفعله " داعش " هو من قبيل حرب الأعصاب قبل الإعلان عن الذبح الفعلي الذي سيظهر مفاجأة بشعة للعالم كله كسائر جرائمهم ، لقد كنت رهينة لديهم ففي كل يوم يقود هؤلاء المجرمين أسراهم لعملية ذبح أو صلب وهمي وكأنها مشهد تمثيلي ، يكتشف بعدها الضحية أنها من باب حرب الأعصاب حتى يعتاد على هذا الاغتيال الوهمي ، وعندما تحين لحظة الصفر لا يدرك أنها لحظة النهاية ، فيبدوا هادئاً في الفيديوهات كما ستظهر بعد ذلك .
أغلق " ميشال " الهاتف وحاول التخفيف عن " نور " الذي لم يقل إلا كلمة واحدة نشكر الرب ، ثم ذهب إلى غرفته يبكي , ويقيم لنفسه مُحاكمة لأنه سمح لظروف الحياة أن تُباعد بينه وبين " أبانوب " حتى قُتل من أجل 2000 جنيه راتب ، ينظر " نور " حوله فيجد ما يحيط به من نجاح ورفاهية سكيناً تذبحه آلاف المرات ، ولكن عليه الآن أن يتماسك لكي لا ينهار أمام والده وعمه فهما بحاجة له .
في صباح يوم الجمعة 14 فبراير يتلقى اتصالا من والده يطمئن منه على الأخبار
والد نور : أنا بكلمك والعيلة كلها جنبي ، نزلوا مصر وعاملين وقفة احتجاجية عند نقابة الصحفيين ، إنت يا ابني ما وصلتش لأي أخبار
نور : ب احاول
كان صوته متهدجا ، ففهم والده من صوته أنه عرف شيئا يحاول إخفاءه ، لكن    " القسيس ملاك " كان لديه من الصلابة ما يجعله يواجه الموقف دون أن يشعر أحد بشيء
والد نور : يا ابنى إنت عارف أبوك كويس , قضيت عمري ب اخدم في الكنيسة وب اراعي شعبها ، وعندي من الإيمان والصبر كثير قوي .
فهم " نور " من كلمات والده أن لديه من الرغبة لمعرفة الحقيقة , ومن الجلد ما يمكنه أن يحتملها ، فرد عليه بصوت منخفض لكي لا يسمع صوت الهاتف أقاربه الواقفين إلى جوار والده
نور : مع الأسف يا ابويا اللي عرفته إنه غالباً الصور المنشورة لإعدامهم ، وأنهم ممكن يعلنوا ده خلال أيام ، لكنهم بيعملوا حرب أعصاب ، أبويا ... انت راجل قوي وشجاع ومؤمن ، لكن ربما يكونوا عايشين وفيه أمل ، حاولوا يمكن الضغط يخلي الدولة تهتم وتتحرك بسرعة ويكون فيه أمل فعلاً 
والد نور : نشكر ربنا ، نشكر ربنا ، على العموم إحنا كلنا بخير وسلامك هيوصل ,  ولو عرفت شيئا بلغنا
أغلق والد نور الهاتف , وقد فهم المحيطين به أن " نور " ليس لديه أي أخبار عن المُختطفين ، وكان لدى " والد نور " من القوة أن يواجه الموقف بصبر وشجاعة 

مر اليوم وأصبحت الوقفة الاحتجاجية محط أنظار جميع المصريين ، ومسار حديث البرامج الفضائية والإخبارية ، وتم الإعلان لأول مرة عن طلب " داعش " مبادلة واحد وعشرين  قبطيا ب " كاميليا شحاتة " و " وفاء قسطنطين " ، ومن أول وهلة اتضح للجميع أنه لا فائدة من المفاوضات ، أهالي المخطوفين يقولون من أين سنأتي بهما لمبادلتهما ، كانتا " وفاء وكاميليا  " اثنتين من المسيحيات انتشر خبر إسلامهما وبعد فترة من الغموض تظهران وقد اتخذت " وفاء  " طريق الرهبنة أما " كاميليا  " فقد ظهرت في فيديو تقول أنها عاشت مسيحية وستموت مسيحية , وأغلق الستار على هاتين القصتين , فلا يوجد مجال للتفاوض أو إمكانية رجوع المُختطفين , واتضحت حقيقة الأمر أنها بالفعل حرب أعصاب .

في مساء يوم الجمعة يلتقي أهالي المُختطفين برئيس الوزراء " إبراهيم محلب " ووزير الأوقاف بساحة الكاتدرائية المصرية , ومعهم رجال الكنيسة حيث أبلغهم أنه تقرر صرف 1200 جنيه معاش لكل أسرة من أسر المُختطفين ، في تلك اللحظة تأكد " والد نور " أن ما ذكره ابنه صحيح , وأن مصادر الدولة تأكدت من موتهم , لكنهم ينتظرون إعلان " داعش " عن تلك الجريمة النكراء ، ولم تكن تلك الرغبة في تبادل الأسرى إلا من قبيل حرب الأعصاب كما ذكر نور , ومحاولة لإشعال الفتنة الطائفية في مصر .

الجميع يتابع عن كثب مصير هؤلاء المصريين  وعبر وسائل الإعلام ,  البعض يُلقي باللوم على الضحايا نظراً لسفرهم لبلد غير آمن ، والبعض الأخر يُلقي باللوم على الدولة لمنحهم تأشيرات السفر ، والبعض يُلقي باللوم على الخارجية لأنها لم تتخذ ما يكفي من إجراءات للتفاوض على محاولة استرداد هؤلاء المصريين الذين لا حول لهم ولا قوة ولا ذنب إلا البحث عن لُقمة عيش شريفة , وان كان ثمنها الحياة نفسها في وقت يبيع الكثيرين شرفهم وضمائرهم ومبادئهم لتحقيق كل كسب حرام .

يوم السبت الرابع عشر من يناير 2015 تُعلن الخارجية المصرية أن خلية الأزمة تقوم بمساع مع مشايخ القبائل في ليبيا للتفاوض حول إمكانية استعادة المصريين ، وأنين أهالي الضحايا واستغاثاتهم ترتفع عبر وسائل الإعلام ، وباتت الساعات بل الثواني عصيبة على جموع المصريين . 

في الأحد الخامس عشر من  فبراير تُعلن " داعش " عن نشر فيديو لذبح المصريين المُختطفين , وبه نفس المشاهد التي بدت في الصور التي نشرتها " داعش " من قبل ، إذن كانوا يُفاوضون من باب الحرب النفسية فقط ، كان فيديو الذبح وحشيا ، لا يقوى الكثيرون على مشاهدته من فرط وحشيتها . 
وعلى غير ما يتوقع أعداء الوطن , أن يُحدث هذا الفيديو فتنة طائفية ، لكنها مصر المحروسة التي أراد لها الله النجاة والسلامة , فدائماً يُنزل الهدوء والصبر والسكينة على قلوب أبنائها وقت المصيبة ، وترشدهم نفوسهم الطيبة لمعرفة عدوهم ، فلم يكن الإسلام يوماً عدواً للمسيحية ، لكنه إرهاب مُمول نعم هذا ما أدركه الجميع , وأصبح المصريون وقت الأزمة يداً واحدة , وأُعلن الحداد في مصر .

كان يوم الأحد عصيبا على " نور وشمس وميشال "، كان " نور " مُهيئاً للإعلان عن هذا المصير الذي كان متأكدا منه قبل الإعلان عنه ، أما " شمس " فقد  شعر أن هناك حرباً ضد الإسلام باسم الإسلام ، وكأن هؤلاء السفاحين يقولون للناس هناك دين يذبح ويقتل ويحرق ويدمر الحضارة والتراث , ويحارب العلم فأخرجوا منه  , هكذا أراد أعداء الدين والإنسانية . 
المشهد في مصر ، المصريون مسيحيون ومسلمون يهتفون ضد الإرهاب ، أخوة لا يفرقهم شيء ،  والمشهد في بلجيكا مُختلف تماماً فهو يوم حُفر في ذاكرة " نور وشمس وميشال " .

فور الإعلان عن مقتل المصريين المختطفين عبر وسائل الإعلام , اندفع " نور وشمس " للتأكد من الخبر عبر الإنترنت من خلال الفيديو المنشور ، ظهر فيه       " أبانوب " وهو تحت قبضة أحد مجرمي " داعش "، راقب " نور وشمس وميشال " الفيديو ومع أول مُلامسة للسكين على رقبة " أبانوب " أغلق " نور " جهاز الكومبيوتر ، فلم يقو على احتمال مشاهدة ابن عمه وهو يذبح بتلك الوحشية ، ولم يكن الأمر مُختلفا لدى " شمس وميشال " بعدها جلس " نور " على الأريكة المجاورة لمكتبه صامتاً , تتساقط دموعه , لكنه لم ينطق بكلمة واحدة . 
وخيم الصمت على " ميشال وشمس " حتى قطع الصمت رنين هاتف " نور" ، كان والده يخبره بما حدث , وبصعوبة بالغة رد على أبيه :  نشكر ربنا وأغلق الهاتف ، وما هي إلا ثوان حتى فُتح باب مكتب " نور " المتواجد به الأصدقاء الثلاثة , لقد كان " موريس " الذي حضر لمواساة " نور " على حد قوله , فكان للمواساة شأنا آخرا .
موريس : " نور " صديقي العزيز , أعلم الآن مدى حزنك وآلمك ، كنت متابعاً تلك الفترة لما يحدث  , لكن اليوم وجدت أنه من الضروري الحضور لمواساتك 
نور : نشكر الرب 
موريس : إنه إرهاب أسود ، يقولون أنهم أعدموهم لأنهم مسيحيين ، وأن محمد جاء بالسيف رحمة للعالمين 
أحمر وجه " شمس " غضباً فأي إسلام وأي نبي الذي يأمر بهذه الوحشية ، وكاد أن يرد ويصب غضبه على " موريس " لكن سبقه " ميشال " بالرد 
ميشال : لقد أهداني شمس نسخة من القرآن بالهولندية ، قرأته كاملاً , وجدت فيه سورة كاملة اسمها " سورة مريم " لم يذكروا أم المسيح إلا بخير ، فتعجبت لأمر هذا الدين الذي يتحدث عن أم المسيح بهذا الرقي والاحترام , ويتحدث عن رحمة القساوسة والرهبان وتواضعهم وخشوعهم ، ثم يتهمونه أنه دين يسفك الدماء، , هل من يتحدث بهذه الرحمة يمكن أن يكون بهذه الوحشية ؟ كما أنني لم أجد هذا العنف في بلادهم بين المسلمين والمسيحيين .
موريس : أكيد يوجد بالإسلام ما يحض على العنف ، أتعلم أنهم حرقوا معاذ مثلما كان يحرق أبو بكر وخالد بن الوليد الناس أحياء ، إن هذا موجود بالتاريخ الإسلامي وليس بشيء جديد 
ميشال : لو كان دينهم يأمرهم بالحرق , لما كان على وجه الأرض يهوديا إلا أحرقوه
احمر وجه " موريس " غضباً ، فها هو " ميشال " يعيد إلى ذاكرته محرقة اليهود ، فرد بغضب : وهل ترى أن اليهود مُستحقين للحرق مثلما فعل هتلر ؟ 
ميشال : بل أرى أنكم على عداء دائم مع العرب والمسلمين ، وأنتم بالنسبة لهم مُغتصبوا للأراضي المقدسة ، فلو كان هناك من أولى بالحرق والذبح لكان عدوهم الأول وليس المسيحيين , كما أن الإسلام كما قرأت ينص على إيمان المسلم بكل الأنبياء والرسل بما فيهم موسى وعيسى .
صاعقة أخرى تلقاها موريس ، نعم إنه يفهم تلميحات " ميشال " ، فلم يتورط المسلمين في قتل الأنبياء , مثلما حفل تاريخ اليهود ,  فحاول ترجيح الموازين لصالح إسرائيل واليهود المضطهدين كما يعتقد
موريس : لقد شاهد العالم اليوم يوماً واحداً من مُعاناة اليهود في إسرائيل ، وعندما نمارس رد الفعل يتهمنا العالم بالبربرية والوحشية ، يحاسبوننا على الدفاع عن أنفسنا ولم يحاسبهم أحد على أعمالهم الإرهابية ، وما التفسير أن يخرج كل هذا العنف من دين واحد ؟ هل أصيب العالم كله بمرض التخيلات أم أنها حقيقة مؤكدة لا تقبل الشك ؟
خرج " نور " عن صمته لأول مرة بعد مشاهدة الفيديو بكلمات  ذات تلقائية شديدة لم يتكلف  فيها شيئا ، لكنه قال ما استقر في نفسه
نور : المشهد ده بيفكرني بأفعال عصابات " الهجانة  "لما اقتحمت دير ياسين الساعة الثالثة فجرا تذبح ، وتقطع الرؤوس ، وتمثل بالجثث ، وتغتصب النساء الصغيرات والمسنات ، تبقر بطون الحوامل , وتقطع أطراف الأطفال ، مجزرة بشعة يصعب محوها من ذاكرة التاريخ
موريس : ماذا تقصد  ؟ هل ترى اليهودية دين إرهاب ؟
نور : لا وحق من قُتلوا غدراً ، قلت لك سابقاً الأديان تتوافق ولا تتطابق ، تتفق فيما تدعوا إليه من رحمة وقيم أخلاقية ، وتختلف في طريقة ممارسة العبادة ، لكن دائما هناك من يحاول لي ذراع الدين لخدمة أهدافه ، والعمل تحت راية الدين ، فيلصقون به ما ليس فيه ، ويتحدثون باسمه ، دائماً يظنون أن الله لم يهد غيرهم ، فيتصرفون وكأنهم يملكون مفاتيح الجنة والنار ، بها يُقسمون الناس إلى مؤمنين وكفار ، ثم يمنحون أنفسهم الحق في إنزال العذاب بمن كفر ، كأنهم الرب ذاته ، غايتهم تُبرر وسيلتهم ، منهجيتهم واحدة ، هكذا فكرهم دائماً واحد وإن اختلفت المسميات
موريس :طبعا تقصد " داعش " وغيرها من المسلمين المتطرفين 
ابتسم " نور " ابتسامة باهتة ثم قال : " داعش " مجرد " ماريونيت "، ابحث عن الأيدي التي تمسك بالخيوط
اصفر وجه " موريس " وقال : ماذا تقصد  ؟ كلامك كله تلميحات والغاز لا أفهمها ، هل تعلمون شيئا لا نعلمه نحن ؟ 
نور : حاولت ,  حاولت جاهداً مشاهدة الفيديو فوجدت أن القامات الطويلة ليست مشابهة لقامات العرب ، كما وجدت ساعات , وكاميرات تصوير , وأسلحة , تنم عن تمويل سخي لا يتوافر لنا كشعوب عربية تعانى الفقر والجهل والمرض ، هذا بالإضافة للكنة بريطانية فمن يكون هؤلاء 
موريس : مسلمين وهذا هو الأكيد الآن ، فمن الذي أحرق كنائس المسيحيين في مصر , أليسوا مسلمين ؟ ولماذا ليس لديكم حرية بناء الكنائس ؟ كل هذا أليس اضطهادا لكم كمسيحيين ؟ 
نور : وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن , هكذا قال البابا تواضروس عشنا 1400 سنة في محبة وسلام رغم التيار المتشدد أو المتطرف , مازال هناك وحدة وترابط وحب يجمعنا , ولو كان الإسلام دين عنف لكان هذا العنف ظهر منذ عهد عمرو بن العاص , لكن المسيحيين في عصره عاشوا في عدل بعد قهر الرومان , رد لهم أموالهم وكنائسهم 
موريس : على كل حال لن أعقب على ما ذكرته , فأنت في حالة نفسية سيئة ، ولكن سأمد يدي وأقول لك البقية في حياتك كعادة المصريين 
نظر إليه " نور " متأملاً ليده دون أن يمد له يده ثم قال إحنا " صعايدة "  و " التار قبل العزا " 
ارتجف " موريس " من تلك الكلمة وقال : التار من مين ؟ !! 
نور :  من المجرمين 
خرج " موريس " من مكتب " نور " يبدوا عليه كل مشاعر الضيق والغضب ، أما       " نور " فنظر له " شمس وميشال " نظرة الإعجاب بقدرته على تحمل الأزمة وصلابته في مواجهة " موريس " الذي لم يحضر سوى لرغبته في التلاعب بمشاعره لإشعال نار الفتنة الطائفية .

بعد معاناة طويلة وقلق مُستمر بشأن مصير الشباب المصري ، شعر " نور "بكل الألم يُلم بجسده ، لكن هذه الليلة طلب منه " شمس " أن يبيت معه في غرفته لقلقه عليه ، وكأن " نور " كان ينتظر هذا فوافق فوراً 
استسلم للنوم بعد أن تناول قرصا مُهدئا ، أما " شمس " فقد جلس على كنبة مجاورة يقرأ القرآن , ثم فتح التليفزيون بغرفة الصالون يتابع القنوات المصرية ، وما أن أدار الريموت نحو الفضائية المصرية حتى رأى الطائرات المقاتلة المصرية تنطلق لضرب " داعش " في ليبيا ، فذهب إلى " نور " يوقظه ، ففتح عيناه فقال له شمس : قوم شوف الطيران المصري وهو بياخد بتار " أبانوب " فقفز من فوق السرير متجهاً إلى شاشة التليفزيون وهو سعيد مُبتسم , يشعر أن كرامته ردت إليه ، وقتها فقط قال له شمس : البقاء لله ، فقال له " نور " : احجز لنا تذكرتين طيارة علشان نروح ناخد عزاهم

في مساء يوم الإثنين كانا  في محافظة "  المنيا " ، " شمس " إلى جوار " نور " مثل كثيرين غيره من المسلمين ، وقفوا لتلقي واجب العزاء في جيرانهم وأصدقائهم من المسيحيين ، عزاء تحول إلى ملحمة وطنية ، الجميع يهتف باسم مصر والجميع يؤكد وحدتهم ضد الإرهاب 

عادا إلى القاهرة في الصباح الباكر من يوم الثلاثاء ، وفي الساعة الخامسة عصراً جلسا على مقهى رمسيس المُُعتاد ، حالة من التماسك كانت تبدو على وجه " نور " بسبب إثلاج صدره بالضربة الجوية التي وجهت " لداعش "، وبسبب حالة التماسك البطولي التي ظهر عليها " أبانوب " ورفاقه ، حقاً كانوا رجالاً شامخين رغم مواجهة الموت ، لقد كانت شجاعتهم تدعوا للفخر بهم ، كان أيضا من أسباب ارتياحه هذه الروح المتوحدة بين المسلمين والمسيحيين , فهم لُحمة واحدة لا يستطيع أحد التفريق بينها ، أيضا تُظهر الأحداث أن مصر لازالت بلد الأمن والأمان , عندما ننظر لما يحدث حولها في الدول العربية كالعراق وسوريا وليبيا ، وكل هذه المعاني تجلت في مشهد المصريين الفارين من ليبيا , عندما سجدوا لله شكراُ يقبلون تراب الوطن , ويقولون عمار يا مصر رغم كل شيء .

لحظات من التأمل والرضا ، لم يغب عنها الألم لمشهد الذبح البشع الذي لن يُمحى من الذاكرة ،  فإذا بهذا التأمل والصمت يقطعه حديث مجموعة من الشباب على الطاولة المجاورة لهما ، كان نقاشهم حادا  , وبصوت عال
عادل : بصراحة يكون في عون أهالي الشباب دول , أنا شفت الفيديو كله , بصراحة شيء بشع , ده لو كفرة ما يعملوش كده
هيثم : ليه هو انت مصدق التمثيلية دى ، ده فيلم عمله العسكر علشان يقولكم شفتم لو سيبناكم هـ يحصلكم إيه ، داعش هـ تدبحكم، وأصلا لا فيه " داعش " ولا يحزنون ، وبكده يقدموا " ليبيا " على طبق من دهب لأمريكا ، علشان تحتلها باسم الحرب على الإرهاب
عادل : وإيه مصلحة الجيش إنه يسلم " ليبيا " للأمريكان وهما جيراننا ؟ ويخلي مصر في كماشة أمريكا , وبعدها أمريكا تحتل مصر وتضرب الجيش المصري                هيثم : أومال انت فاكر إيه , الناس دي خلاص ربنا عمي قلوبهم وإن شاء الله هـ ينتقم منهم 
عادل : نعم ؟ !!، يعني أنت عايز تقنعني إن الموضوع كله إننا نتغطى كويس قبل م ننام ، وإن مفيش " داعش " وهي ما قتلتش حد ، والجيش عامل " داعش "  تمثيلية علشان " أمريكا " تحتل " ليبيا ومصر " وكمان الجيش اللي بيدمر نفسه بنفسه , ويعمل تفجيرات في معسكراته ويموت نفسه
هيثم : خليك منساق ورا  الإعلام الفاسد ، فعلا مش سحرة فرعون , إنت ما شفتش الناس دى رايحة تتعدم بهدوء ازاى ، بذمتك لو انت مكانهم هــ تبقى حالتك إيه ؟ وبعدين فيه بحر ب يتلون أحمر
عادل : طبعاً ، معاهم كاميرات حديثة , وتسليح قوي , وتمويل سخي , واللي عمل " داعش " عمل " القاعدة " قبليها  , بس ربنا مسيره يقلب السحر على الساحر
باهر : المهم الانتخابات على الأبواب , ولازم تقفوا جنب الحزب بتاعي ، لما البرلمان يتشكل صح الدنيا هـ تتعدل , ونقدر نعمل قوانين تمشي البلد صح
هيثم : والحزب بتاعك بقى عمل إيه للبلد ، آه نسيت تقصد برلمان " أحمد عز وسما المصري " ، وبرلمان العار ده هـ يعمل قوانين تمشي البلد , ولا تهز البلد وتخربها أكثر ما هي خربانة 
عادل : يا سيدي مين قال لك إنهم هـ ينجحوا  ؟ ما شفتش الناس لما حرقت بطاطين " أحمد عز " , وبعدين المصريين صعب ينضحك عليهم تاني بعد كل بيت ما بقى فيه شهيد
هيثم : كل واحد يموت دلوقتي يسموه شهيد , وبعدين فين قلوب الناس لما بتوع رابعة ماتوا  ؟ ولا دول مش شهداء ؟ !
عادل : إحنا مش ربنا علشان نحكم على مصاير الناس , مين شهيد ومين مش شهيد ؟ ربنا يرحم الجميع برحمته , لكن فيه ناس اندبحت بدم بارد ، سافروا من قلة الشغل , لازم نعاملهم معاملة الشهداء
جاسر : وهى " داعش " عملت إيه غير إنها طبقت الشرع 
عادل : نعم ؟ ، شرع ؟ , وبعدين , من إمتى انت أصلا بتفهم في الشرع ,  أنا عمري ما شفتك في جامع يا ابنى ، إنت تربية بلاد بره ، إنت ناسي سهراتك  , وشعرك اللي عامله ديل حصان , تفهم إيه انت في الشرع ؟  
جاسر : أنا خلاص مسافر بكرة ,  انضميت  " لداعش "
باهر : سيبوه ده خلاص مخه ضرب , بقالي فترة شايفه على تويتر ب يتكلم مع العيال بتوع " داعش "  ومأيدهم ، قلت عايش الدور على تويتر يومين , لكن واضح إنه اتجنن بجد ، مين يصدق إنه كان في يوم من الأيام من شباب الثورة , وقلت انصلح حاله , لكن المايل مايل
عادل : والله م انا فاهم حاجة  , الناس اتهبلت ولا إيه  , أنا سايبكم وماشي
حوار دار بين هؤلاء الشباب استمع إليه " نور " بكل إصغاء وقلبه يتمزق ، و " شمس" مشفق على صديقه لذلك هم بالقيام ومغادرة المقهى رحمة ب " نور " من هذا الحوار المؤلم ، لكن " نور " قام واتجه ناحية هؤلاء الشباب , وأمسك بذراع عادل الذي كاد أن يغادر المقهى ، فالتفت الجميع له , تعلوهم دهشة لهذا التصرف من نور  نور : ممكن لحظة من فضلكم ، أنا سمعت الأستاذ وهو بيقول إن اللي                       " داعش " عملته فيلم عامله الجيش ، أفهم من كده أن الشباب دول عايشين ما ماتوش , صح ؟  ، أنا موافق وفرحان بس رجعلي " أبانوب  " تقدر ترجعهولي 
صمت " هيثم  " ووضع وجهه في الأرض , لا يعرف ماذا يقول 
نور : ما دمت سكت كده يبقى " أبانوب " مش راجع، " أبانوب " يبقى ابن عمي شفته ب يندبح قدام عيني , عارفين سافر ليبيا ليه ؟ علشان 2000 جنيه مش لاقي ربعهم في مصر ، علشان ما يقولش لابن عمه المرتاح اللي هو انا  " أنا محتاج "، عزة نفسه منعته فدفع حياته الثمن ، الناس دي كان عندها كرامة , واجهوا الموت علشان ياكلوا لقمة عيش بشرف , لا سرق ولا بلطج ولا حرق ، بس في كل كلامك كلمة صح , لما قلت للأستاذ الأحزاب عملت إيه ؟ ، عملت إيه كل الأحزاب ل " أبانوب " واللي زيه لما سافروا يتغربوا في بلاد الموت فيها بيقش الناس علشان ملاليم مش لاقينها في بلدهم ، بتوع الانتخابات مش بنشوفهم إلا في موسم الانتخابات  , بيعاملوا الناس كأنها كلاب تفرح بعضمة , يرموها لها وتجري وراها وبعد كده يسيبوا الكلب الغلبان فريسة للفقر والجهل والمرض والإرهاب اللي أصبح رحمة له من دنيته .
آه آسف إني مسكت دراع حضرتك وعطلتك , كنت ماشي ، زعلت من الأستاذ اللي مشي و ب يقول إنه انضم " لداعش " ، فهمت منك إنه ما فهمش الدين صح ، مسكين ما لقاش اللي يعلمه , ويوم ما فكر يشوف بلده زى بلاد برة اللي عاش فيها وشارك في الثورة طلع اللي يقول عليهم عملاء وخونة ، حتى لما انتخبوا ناس جديدة تعرف ربنا للأسف اتقال عليهم علمانيين وما يعرفوش ربنا ، ويوم ما الناس ثارت على الإخوان ، ظهر لهم على الساحة " أحمد عز وسما المصري "، تفتكر يعمل إيه ؟ راح من وجهة نظره لناس معاهم القوة والعنف والبطش أكثر من أي نظام قمعي , و ممكن يقول إنه متدين أكثر من الإخوان نفسهم ويطبق عليهم الحد لو عايز ، ب يحلم إنهم يحكموا العالم ويبقى حقق أحلامه في دولة         " داعش " لما فشل في تحقيق احلامه وسط أهله وناسه ، الشاب ده وغيره كثير مع الأسف ضحايا ، ضحية فرصة عمل تضمن له حياة كريمة في بلده ما لقهاش فيضطر يدور عليها بره ، ضحية تعليم ديني صح من ناس متخصصة ما لقهوش ففهم الدين من ناس تانية ، وضحية أنظمة مستبدة سنين طويلة ضيعت أحلام الشباب وهمشتهم لغاية ما خرج عن صمته وثار ، وضحية ناس مريضة وفاسدة تركب أي موجة مع أي نظام , فرضت نفسها على المصريين فرض تمص دمهم وتحطم أحلامهم , وكأن مصر عزبتهم الخاصة مش وطن لكل المصريين ، بس في وسط كل ده فيه عدو صاحي  , ومفتح عينيه , ومراقب كويس علشان يستقطب الشباب دول ، قبل ما تلوموا عليهم لأنهم وقعوا في شباك ناس مجرمين لازم نمد لهم إيدينا ونحتويهم , لازم ندور على اللي يجمعنا مش يفرقنا ، إمتى نفوق بقا ونفهم , إمتى ؟
شمس : " نور " كفاية كده , يا للا أرجوك كفاية ، كل واحد ب يشوف الحق والحقيقة من وجهة نظره
نور : ولغاية إمتى يا شمس ؟  حتى الموت اللي كان ب يجمع الناس تواسي بعضها بقا ب يفرق ، الرحمة ماتت في قلوبنا
شمس : بس رحمة ربنا واسعة , مش هـ نحاسب ربنا في حكمته يا " نور "

قرر شمس العودة إلى بلجيكا , وأصر أن يسافر مع " نور " فهو بحاجة للابتعاد عن " مصر " لكي ينسى الظروف العصيبة التي مرت به وبعائلته بل وبمصر كلها ، كان " نور "  راغباُ في البقاء إلى جوار عائلته , لكن والده رأى أن وجهة نظر              " شمس " صائبة , وأن السفر أفضل علاج لنور ، وطلب من " جورج " أبن أخيه وشقيق " أبانوب " أن يتولى أمر إدارة المحل بفرع سيتي ستار , وهي نفس الوظيفة التي كان " نور " عازماً أن يكلف بها " أبانوب " بسبب سفره لبلجيكا ، وكان هذا الأمر مريحاً لقلبه , بعد أن خصص لجورج راتبا مُجزيا يمكنه من رعاية أسرته ,  دون أن يُشعر عمه أنه يتلقى إحساناً أو مساعدة من أحد , حتى لو كان أخيه أو ابن أخيه ، أما والدة " أبانوب " فلم تحتمل خبر وفاة ابنها , فعجل هذا بوفاة كانت مُنتظرة الحدوث سلفاً , فهي في المراحل الأخيرة من المرض .
استيقظ الصديقان في الساعات الأولى من صباح السادس والعشرين من فبراير 2015 وودعا أسرتيهما استعدادا للذهاب إلى مطار القاهرة للسفر إلى بلجيكا ، كان " شمس " متشوقاً لروية " عبد الرحمن " ، " عبد الرحمن "  طفل صغير من سكان " شارع رمسيس " ,  توفي والده الذي كان يعمل بالتجارة , وكان أخوة شريكا له ، وبعد وفاة الأب استولى الأخ على نصيب أخيه , وترك زوجة أخيه وابنها بلا عائل ,  فلم تجد " أم عبد الرحمن " مصدراً للرزق إلا أن تعمل على أحد الأرصفة في عمل الشاي والقهوة للبائعين والمارة ، كان " شمس " يجد في نفسه حباً قويا ل " عبد الرحمن " مما دفعة لأن يكفله بعدما تحسنت أحواله المادية وسافر للعمل في بلجيكا ، وكان " عبد الرحمن " نفسه شديد الحب ل " شمس " وكان يعلم بموعد سفره ، لذلك لم ينم في تلك الليلة , وانتظر حتى أشرق نور الصباح , ووقف بالشارع ينتظر نزول " شمس " ليسلم عليه 

خرج " شمس ونور " من باب البيت , ونظر " شمس " إلى الشارع فوجد " عبد الرحمن " في أول الشارع يلعب أمام أحد المحال ، فهم بالذهاب إليه , ووضع حقائبه على الأرض إلى جوار " نور " وما كاد أن يرفع رأسه حتى سمع صوت انفجار مدو وضوء قوى اهتز له " شارع رمسيس " ودفع ب " شمس ونور " إلى مدخل البيت من شدة الانفجار , وما هي إلا ثوان حتى خرجا يستكشفا ما حدث ، التفتا إلى المكان الذي كان يقف فيه " عبد الرحمن " فإذا به يجد الأرض مكانه تلونت باللون الأحمر وقد تحول إلى أشلاء 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق